بالنسبة لما يتعلق بوجوب البلاغ نقول الله عز وجل أمر الناس بالبلاغ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عني ولو آية" ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من كتم علماً يعلمه ألجمه يوم القيامة بلجام من نار" ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ ويقول الله عز وجل عن اليهود: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ وهؤلاء الذين سماعون للكذب يعني يسمعون الباطل ثم يسكتون عن إنكاره فجعلهم الله عز وجل مستحقين للّعنة، بل الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ كتموا ما تكلموا بالباطل فاستحقوا العقوبة، والله جل وعلا قد بيّن حال بني إسرائيل أن من سبب ظلمهم وبغيهم وكذلك عدوانهم واستحقاقهم اللعنة أنهم لبسوا الحق بالباطل، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في جملة من الأحاديث في التحذير من طريقة بني إسرائيل في لبس الحق بالباطل وكذلك أيضا بكتمان الحق كما في قصة لما أرادوا تحكيم النبي عليه الصلاة والسلام في قضية الزنا ووضعوا أيديهم على الآيات التي فيها الرجم هذا نوع من الكتمان، فهم ما قالوا الباطل ولكنهم كتموا ذلك الحق الذي أنزله الله عز وجل عليهم وبقي محكما مما لم يحرف.
لهذا نقول إن كتمان الحق هو شبيه بقول الباطل في حق العلماء لماذا؟ لأن وجود أشخاص العلماء الأصل فيه البيان فإذا رأوا الباطل ثم كتموه ولم يتكلموا بالحق فيه فهذا شبيه من التلبيس والتدليس الذي كان في بني إسرائيل، العلماء سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم يقع فيهم ما يقع من كتمان الحق وهذا من أعظم الرزايا التي بليت فيها الأمة؛ ووجه الرزية أن بعض العلماء يظن أنه ما دام أنه لم يقل الباطل فهو على سلامة وأمان، وأما كتمانه للحق مع رؤيته الباطل مع قول الباطل في الناس من يجد من يلبس على الناس دينهم سواء كان من الحكام أو كان من العلماء أو انتشار الشر في الناس أن هذا لا يؤاخذ عليه ما دام أنه لم يتكلم بالباطل، نقول: بل إن هذا من أعظم الجرم عند الله سبحانه وتعالى أنك علمت الأمانة ثم رأيت الناس يهلكون بالباطل ثم لا تبينه ووجودك في ذلك حجة عند بعض العامة أن يقولوا فلان سكت فحينئذ سكوته في ذلك دليل على أن لا منكر في الأمة وهذا من الشر العظيم الذي بلي به كثير من المنتسبين للعلم، نعم وهذا الأمر موجود في الأمة ولا تخلو منه بلد ولا يخلو منه مجتمع من المجتمعات هذا من الفتن ورسالته والرسالة في ذلك إلى العلماء أن يبينوا الحق للناس فيما أمر الله جل وعلا به من بيان الحق قدر وسعهم وإمكانهم، أن يبدأوا الشر من أعلاه وأن يحققوا الأمر من أعلاه من أمر توحيد الله وكذلك أيضا الشرك ثم ما تلبست بذلك الأمة، لو قيل إن الله سبحانه وتعالى يعذر الإنسان الذي يسكت عند رؤية الباطل إذا كان عالما فما قيمة من جهة البلاغ! وكذلك أيضا ما قيمة الأنبياء إذا كانوا يديمون الإصلاح في ذلك والسلامة في ذلك في أمر السكوت، لهذا نقول: إن الله عز وجل يعذب قائل الباطل من العلماء ويعذب كذلك أيضا الذي يكتم الحق ولو لم يقل الباطل كحال بني إسرائيل، إنما ضل بنو إسرائيل بأنهم يسمعون الشر ولا ينكرونه، ولهذا الله عز وجل يقول: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ سماعون إشارة إلى أنهم ما تكلموا، وإلا لو تكلموا بالباطل لقال متكلمون بالباطل وأكالون للسحت، ثم أيضا قرن الله عز وجل الأمر بأمرين الأمر الأول قال: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ يعني أنهم يأكلون بسكوتهم وهذا من الشر والفتنة أنه يوجد من العلماء من يظن أنه يُعطى هدية أو عطية لحظ نفسه بينما إنما أُعطي لسكوته لا أن يعترض على قول الشر وهذا من الفتنة التي تقع في الدعاة وكذلك أيضا في العلماء وفي المصلحين أنه يقول أني لم أقل الباطل وهذا أمر من أدنى دركات السلامة بل هي بل نقول إن هذا من أمور الهلاك التي ضل فيها بنو إسرائيل، وإنما حين تعلمت الأمانة وأخذ الله عز وجل عليك الميثاق وتحقق لديك العلم فالواجب عليك البلاغ والجاهل في ذلك خير من العالم، لأن الجاهل لا يعلم وسكوته في ذلك هو الذي يسلم لأنه لا يعلم الحق من الباطل.
أما بالنسبة لمن يقول إنه يخاف على نفسه ببيان بعض الحق أو بيان مثلا شطره أو نحو ذلك نقول: إن بعض العلماء ربما يطرأ عليه شيء من الضرر أو الهلاك أو نحو ذلك، نقول الأصل في هذا أنه يبين الأصل ولو لم يعلق الأمر بالأشخاص، وهذا الأمر الذي لا سلامة لأحد فيه وهو الأصل من جهة الأمانة التي جعلها الله عز وجل في العلماء، لهذا الإمام أحمد رحمه الله تكلم على قضية خلق القرآن وبيّنها ولكنه ما تعلق في أمر الأفراد، إذا عجز الإنسان أن يبين حال فرد من الأفراد أو كذلك أيضا صاحب شر انتشر شره في الناس فعليه أن يتكلم في الشر وقيمته فهذا هو أدنى ما أوجب الله سبحانه وتعالى على العلماء، أما أن يحجم عن بيان الشر بعينه، وكذلك أيضا ما يتعلق بذوات أصحاب الشر والفساد فلا يتكلم في صاحب الشر ولا يتكلم في بيان أيضا المنكر والشر الذي يتكلم به أهل الشر ثم يظن في ذلك أنه يخاف على نفسه، نقول إنما يتعلق بالبلاغ والبيان الله سبحانه وتعالى جعله تكليفا ولو كان أمر الملامة وكذلك أيضا العتاب وكذلك أيضا ما يطرأ على الإنسان عذر الإنسان في أن يتكلم ما كان للعلماء قيمة من جهة بيان الحق، بل أيضا الأنبياء كان لهم عذر بأيضا في عدم البلاغ.
من الأمور المهمة التي ينبغي الإشارة إليها في مسألة بيان الحق وكذلك أيضا كتمانه وعدم إنكار الباطل: أن بعض الناس وخاصة بعض العلماء أو الدعاة عند ورود منكر من المنكرات يحجمون عن القول فيه بسبب أمر وهو أنهم يخشون أن هيبتهم تسقط وهذا من الفتنة أيضا، أن بعض الناس لديه طمع في الجانب المادي والطمع في الجانب المادي، وأناس لديهم شرف وطمع في جانب الجاه والعلو في الناس، فيظن أنه إذا كان زاهدا في جانب المال فهو من الصادقين هذا من الخطأ، بل ربما يكون الإنسان لشرهه بالجاه ولو كان زاهدا يلبس المخرع ويعيش في بيوت يسيرة هذا من الفتنة، ولهذا قد ذكر سفيان الثوري عليه رحمة الله أنه يقول: تجد الرجل يزهد في طعامه وشرابه وأما في جاهه فيتناطح تناطح التيوس، يعني أنه في أمر الجاه يسعى في تحقيقها ولو أُخذ من ذلك من جاهه شيئا يسيرا لثارت ثائرته، هذا من الفتنة العظيمة الكبيرة التي يبلى بها كثير من العلماء فيظن أنه إذا كان لا يأخذ الهدية ولا يأخذ العطية فهو زاهد من أهل العلم والدراية والمعرفة وأهل السلامة، ولكن من جانب آخر أيضا وهو جانب الجاه جانب السلامة والحظوة، إذا شفع أن تُقبل شفاعته وإذا تكلم أن يُسمع كلامه، يريد أن يحافظ على هذا الأمر ولو على حساب الدين، نقول: إن من رأى هيبة الدين تنتهك ثم تركها لأجل هيبته أخذ الله عز وجل من هيبته بمقدار ما سقط من هيبة الدين فالجزاء من جنس العمل.
|