بالنسبة لصلة الأرحام أمر الله عز وجل بصلة الأرحام في مواطن عديدة وكذلك أيضا النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث وهي من أيضا من الأمور المتواترة القطعية في النصوص الشرعية وكذلك أيضا بالدلائل العقلية النظرية، يقول الله عز وجل: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) والمراد بذلك هي صلة الأرحام وفي قول الله عز وجل: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) على القراءتين (والأرحامَ) أو (والأرحامِ) وكذلك أيضا في قول الله سبحانه وتعالى قال: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) فالله عز وجل أمر بصلة الرحم وحذر الله عز وجل من القطيعة، وقطيعة الرحم من كبائر الذنوب، وتعظم القطيعة كلما كان الرحم في ذلك أقرب وأعظم الأرحام في ذلك ما يتعلق بالوالدين
وأما بالنسبة للوعيد الوارد في ذلك، جاء وعيد عام وجاء وعيد خاص، بالنسبة للوعيد الخاص المحدد المعين كما في حديث كما في الصحيحين وغيرهما عن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في حديث جبير قال: (لا يدخل الجنة قاطع) والمراد بذلك هو قاطع الرحم، وكذلك أيضا من الأدلة الخاصة ما جاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله عز وجل الخلق جاء الرحم وتعلقت بحقو الرحمن) وجاء في رواية: (بالعرش فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال الله عز وجل: هل ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك) فصلة الرحم واجبة متأكدة وهي من القطعيات والقطيعة في ذلك من كبائر الذنوب
بالنسبة للحد بحد الأرحام، نقول: لا يختلف العلماء في ابتدائها ولكنهم يختلفون في نهايتها وأقصاها، بالنسبة لابتدائها تبدأ من الوالدين كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح في قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة لما سأله رجل قال: من أحق الناس بصحبتي؟ فقال النبي: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب) وجاء في رواية: (ثم أخاك ثم أدناك فأدناك) وهذا يدل على تقريب جهة البداية لا يختلف العلماء على أن أول الناس من جهة الصلة هي الأم ثم بعد ذلك يكون الأب، ثم بعد ذلك يتدرجون من جهة المرتبة والحق
والعلماء عليهم رحمة الله تعالى اختلفوا في نهاية، نهاية الأرحام الذين يجب على الإنسان أن يصلهم والعلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قالوا بأن الأرحام لا حد لها وإنما هي موكولة إلى قدرة الإنسان فكل رحم يستطيع الإنسان أن يأتي بواجبه من جهة الصلة فإنه يجب عليه ولا حد لذلك
قالوا ذلك لعموم الأدلة في الشريعة من الكتاب والسنة فإنها جاءت عامة ويستدلون بعموم الأدلة والإطلاقات وأن الشريعة لم تحدد
والقول الثاني: قالوا إن الأرحام الذين يجب على الإنسان أن يصلهم هم الأرحام الذين يحرم نكاحهم لو كان أحدهم أنثى أو كان ذكرا فإذا كان أحدهم أنثى والآخر ذكرا ويحرم النكاح بينهما فإنه يجب على الإنسان أن يصلهم وهذا الحد في ذلك أقصاه العمة والعم وكذلك أيضا الخال والخالة وأما بالنسبة لأبناء العم وأبناء الخالة فإنهم يجعلونهم على هذا القول من الصلة المستحبة لا من الصلة الواجبة
وهذا القول قد ذهب إليه جماعة من العلماء وهو قول جماعة من الفقهاء من المالكية والشافعية وقال به أيضا أبو الخطاب من الحنابلة، وقال به أيضا القرافي رحمه الله من المالكية وغيرهم عليهم رحمة الله تعالى في مسألة الحد
والقول الثالث في هذا قالوا: إن الأرحام الذين يجب على الإنسان أن يصلهم هم الذين يرثهم الإنسان بما نصه الله عز وجل في كتابه، أو جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصحاب الحروم، فقالوا هذا ضابط في ذلك، والأظهر والله أعلم أن القول الثاني هو أقرب للصواب ولكنه بشيء من التفصيل وهو أن الأرحام الذين يجب على الإنسان أن يصلهم هم الأرحام ذي المحارم أي الذين يحرم نكاحهم لو كان الأطراف ذكر وأنثى وذلك كالوالدين والأبناء وإن نزلوا وكذلك أيضا الإخوة وكذلك العم والعمة
وأما من قال بالإطلاق فإن الإطلاق في ذلك فيه تكليف بما لا يطاق وذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يصل مع تعدد الأرحام وكثرتهم فإن للمرء من جهة الأم أرحام متعددون ولها أيضا من جهة جدها الأول والثاني والثالث والرابع وكذلك أيضا من جهة الأب
وإذا قلنا إن الإنسان يأثم بجميع هؤلاء الأرحام في ذلك تأثيم بما لا يستطيع الإنسان أن يصلهم وهذا نوع من التكليف الذي لا تأتي به الشريعة، ويلزم من ذلك من هذا القول أن يقال بأن الإنسان أن يصل جميع الخلق باعتبار أن جدهم واحد وهو آدم، وهذا التعليق فيه نظر ولكن نقول: إن الصواب في ذلك أن الأرحام ذوي المحارم الذين يحرم نكاحهم، فإنه حينئذ يجب عليه أن يصلهم بالنسبة لما بعدهم
نقول لما بعدهم على حالين:
الحالة الأولى: إذا وجد في الأرحام من هو صاحب حاجة، فإنه يجب على الإنسان أن يصلهم ولو كانوا من غير ذوي المحارم فإن الحاجة في ذلك متعلقة بهم لأن الشريعة قد جعلت الحق في ذلك في الأقربين، وذلك أن الله عز وجل قد جعل في العاقلة عند الدية أنها تكون على العاقلة وهؤلاء يدخلون في عاقلة الإنسان فحقهم في ذلك أقربهم كلما قرب من الإنسان وجب على الإنسان أن يصله
وأما القول الثاني الذين يقولون إن أصحاب الفروض الذين يرثون من الإنسان نقول هذا قول ضعيف باعتبار أنه يخرج العم والعمة والخال والخالة والنبي عليه الصلاة والسلام قد جاء في التأكيد بصلة العم والعمة والدليل في ذلك واضح ومنها ما جاء في الصحيح في البخاري من حديث البراء عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الخالة بمنزلة الأم)
وكذلك أيضا ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألم تعلم يا عمر أن العم صنو الأب) والمراد بذلك هو نظيره وإنما خرج من جذع رحمه وهذا إشارة إلى حقه في الصلة فنقول حينئذ: إن العم والخالة هي داخلة في دائرة الوجوب وكذلك أيضا العمة والخالة
أما بالنسبة لأبنائهم فإذا كان محتاجا فيجب على الإنسان أن يصلهم وإذا لم يكن ثمة حاجة فهذا من فضائل الأعمال المتأكدة على الإنسان وهي داخلة في عموم الفضل مما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه) وهذا يدخل في ذلك الأرحام ولو كانوا بعيدين
ولو كانوا بعيدين باعتبار أن هذا يدخل في دائرة الطاقة، ولكن قد يستدرك البعض ويقول: إن بعض الناس ليس لديه أرحام من ذوي المحارم وذلك ربما يكون من جهة القدر ليس له إخوة، وليس له والدين، وليس كذلك له أعمام وأخوال هذا يصبح أبناء عمه أيضا لا يجب عليه أن يصلهم، نقول في مثل هذا: الشريعة أرغبت في مثل هذا التواصل أما من جهة الوجوب فإن التعيين في ذلك يحتاج إلى دليل، أما الفضل فهو متأكد وإذا كان في أحدهم حاجة فيجب عليه أن يقضي تلك الحاجة إذا كان مستطيعا وكذلك أن يسدها، بل يجب على الحاكم إذا وجد أحدا من الأقربين له حاجة أن يلزم أحد أقاربه بقضائها إذا كان بيت المال لا يستطيع في ذلك قضاء حتى يتواصل الناس وتقضى حاجتهم ويعين بعضهم بعضا
|